الخميس، 7 يناير 2010

لا محددية التكنولوجيا.. لا محددية العلم


دبليو برين آرثر: "طبيعة التكنولوجيا"

لا محددية التكنولوجيا.. لا محددية العلم


حسن عجمي
نرصد في هذا المقال طبيعة التكنولوجيا والعلم لنرى صعوبة تعريفها. تدل هذه الصعوبة على أنه من غير المحدد ما هي التكنولوجيا كما من غير المحدد ما هو العلم. ولا محدديتهما فضيلة لهما. فلو أنهما محددان لتم سجن العلماء في تكنولوجيات وعلوم محددة، ما يؤدي الى عدم إنتاج تكنولوجيات وعلوم جديدة. وهكذا فلا محددية التكنولوجيا والعلم تدفع بهما نحو التجدد المستمر والتطور الدائم.تعريف التكنولوجياتحتل التكنولوجيا مكانة مرموقة في سلّم الوجود. فأي مجتمع يتكوّن وفق تكنولوجياته التي من دونها يفقد وجوده أصلاً. وكل حضارة معرّفة ومعروفة من خلال ما أنتجت من تكنولوجيا، لأن التكنولوجيا نتيجة مباشرة للعلوم التي تصوغها البشرية. من هنا، من غير الممكن الفصل بين الإنسان والمجتمع والحضارة من جهة والتكنولوجيا من جهة أخرى. هكذا لا بد من تحديد ماهية التكنولوجيا كي نعرف ما هي وإلا نكون قد خسرنا معارف عدة حول من نحن وكيف نتطور. فالأبحاث الاجتماعية أكدت على دور التكنولوجيا في تطور الإنسان ومجتمعه؛ نحن نتطور مع تطور تكنولوجيتنا والعكس دوماً صحيح. تغزو التكنولوجيا كل الميادين والحقول التي نحيا فيها وبها. فمثلاً، الاقتصاد ليس سوى تنظيم ماهر للتكنولوجيات من أجل تلبية حاجاتنا. وينمو الاقتصاد من التكنولوجيا؛ من هنا، من المستحيل تخيل مجتمع أو اقتصاد من دون تكنولوجيا. بالإضافة الى ذلك، العلم يعتمد على التكنولوجيا و العكس صحيح أيضاً؛ هذا غير مستغرب لأن التكنولوجيا تُبنى على أساس علومنا، كما أن العلوم تُخلَق بفضل تكنولوجيتنا فإذا امتلكنا تكنولوجيا متطورة، فهذا يساعد العلماء أكثر في دراسة الكون وتطوير العلوم. على ضوء هذه الاعتبارات، يقول دبليو بريان آرثر إنه لا بد من تعريف ما هي التكنولوجيا من أجل أن نحقق معرفة أكبر بالأبعاد الإنسانية المختلفة (W. Brian Arthur: The Nature of Technology. 2009. Free Press).التعريف التقليدي للتكنولوجيا هي أنها مجرد تطبيق للمعرفة العملية من أجل تحقيق هدف إنسان محدد. لكن آرثر يرفض هذا التوصيف لأسباب عدة منها أنه في التاريخ البشري الماضي نشأت تكنولوجيات رغم قلة المعارف العملية. كما أن المعرفة العلمية بالنسبة إليه، تتضمن بالضرورة التكنولوجيا، وبذلك فإن العلم، لدى آرثر، معرّف من خلال التكنولوجيا. من هنا، إذا حلّلنا التكنولوجيا من خلال المعرفة العلمية وتطبيقها، وبما أن المعرفة العلمية محلّلة من خلال التكنولوجيا، إذن نكون قد حلّلنا التكنولوجيا من خلال التكنولوجيا ذاتها، وهذا دور مرفوض كتعريف الماء بالماء. لذا يرفض آرثر التعريف التقليدي للتكنولوجيا. وعلى هذا الأساس، ينطلق في رحلة استكشافية نحو الوصول الى تعريف مقبول لمفهوم التكنولوجيا وطبيعتها.يتطور تعريفه للتكنولوجيا كلما تقدمنا في قراءة كتابه "طبيعة التكنولوجيا". يبدأ بتعريفه الأولي على النحو الآتي: التكنولوجيا وسيلة من أجل تحقيق هدف إنساني. فالتكنولوجيا هي مجموعة الآليات المتاحة لجماعة ما والتي بفضلها تحيا وتستمر في البقاء. ووظيفة كل آلية كامنة في التحكم بشيء ما وحسبانه وتحويله الى شيء آخر. فالتكنولوجيات وسائل إنتاج. فمثلاً، الراديو يقوم بحسبان الإشارات ومن ثم ينقيها الى أن يحوّلها الى أصوات.لكن آرثر لا يكتفي بهذا التعريف، بل يطوّره من دون أن يلغيه، وذلك على النحو الآتي: التكنولوجيا هي التقاط ظاهرة طبيعية ووضعها في الاستخدام. بمعنى آخر، التكنولوجيا استغلال لظاهرة واستعمالها من أجل تحقيق هدف ما أو أهداف معينة. وبذلك، التكنولوجيا برمجة للظواهر الطبيعية من أجل أهدافنا. فمثلاً، إشارات الراديو العالية تؤدي الى نشوء صدى متى اصطدمت بالأشياء المعدنية. هذه ظاهرة طبيعية. لكن استخدام هذه الظاهرة من خلال إرسال إشارات نحو السماء واكتشاف صدى تلك الإشارات متى احتكت بالطائرات يشكل مبدأ وينتج الرادار. بكلام آخر، الرادار هو استخدام لظاهرة الإشارات الراديوية وصداها من أجل تحقيق هدف لنا، ألا وهو اكتشاف الطائرات التي تعلو فوق مقدرتنا على إبصارها. بالإضافة الى ذلك، بينما التكنولوجيا استغلال للظواهر الطبيعية من أجل مصالحنا، العلم بالنسبة الى آرثر هو منهج لفهم الكون وتفسيره. فالعلم كما يقول هو مجموعة معارف لفهم العالم من خلال المشاهدة والتفكير والتخيل وطرح الفرضيات. يدفع آرثر بتعريفه هذا نحو اتجاه محدّد مفاده أن العلم أيضاً شكل من أشكال التكنولوجيا. هذا لأن العلم وسيلة لتحقيق أهداف معينة هي الفهم والمعرفة والتفسير والتنبؤ بالظواهر الطبيعية تماماً كما أن التكنولوجيا هي وسيلة لتحقيق أهدافنا.لا محددية التكنولوجياتعاني نظرية آرثر في التكنولوجيا من مشاكل مدمرة. بالنسبة الى تعريفه الأولي: "التكنولوجيا وسيلة من أجل تحقيق هدف إنساني". لكن العقول واللغات هي وسائل من أجل تحقيق أهداف إنسانية؛ فبالعقل نحدّد أهدافنا ونسعى الى تحقيقها وباللغة نتواصل ونعبّر عما يوجد في العالم، أي أن اللغة أيضاً وسيلة من أجل تحقيق هدف إنساني، هو التواصل والتعبير. من هنا، إذا كانت نظرية آرثر في التكنولوجيا صادقة، إذن العقول واللغات هي تكنولوجيات أيضاً. لكن الحقيقة هي أن العقول واللغات ليست تكنولوجيات. وبذلك فإن تحليل آرثر للتكنولوجيا تحليل خاطئ. أما إذا كانت التكنولوجيا مجموعة آليات تتحكم بالأشياء وتحسبها وتحوّلها كما يقول آرثر متعمقاً في تحليله، ففي هذه الحال، العقل أيضاً هو تكنولوجيا؛ فالعقل يحسب المعلومات وبفضله نتصرف ونفعل ونتحكم بأشياء عدة ونحوّلها، كما نحوّل معتقداتنا الى أفعال ونحوّل محيطنا الطبيعي كي يناسبنا ويفيدنا. لكن بالطبع، العقل ليس تكنولوجيا. من هنا، يفشل أيضاً تحليل آرثر للتكنولوجيا.من جهة أخرى، بالنسبة الى تعريف أرثر الأكثر تعقيداً، التكنولوجيا هي التقاط للظواهر الطبيعية وبرمجتها واستعمالها، بل استغلالها، من أجل تحقيق أهدافنا. لكن الظواهر الطبيعية تستغل بعضها البعض من أجل أن تبقى؛ فمثلاً النباتات تستغل التربة لتنمو وتحيا بينما الإنسان يستغل محيطه الطبيعي ليحقق هدفه في البقاء. من هنا، تغدو الظواهر الطبيعية كالنباتات والإنسان تكنولوجيات معينة. وبذلك لا ينجح تحليل آرثر في تمييز التكنولوجيا عما ليس بتكنولوجيا رغم أن هذا هو المطلوب من أي تعريف للتكنولوجيا. من هنا، يسقط تعريف آرثر للتكنولوجيا في مشكلة قاتلة. بالإضافة الى ذلك، إذا كانت التكنولوجيا برمجة للظواهر الطبيعية واستغلالها من أجل تحقيق أهدافنا، إذن العقل البشري تكنولوجيا أيضاً لأننا نبرمجه ونستغله. وهذه نتيجة كاذبة، فالعقل ليس تكنولوجيا. وبذلك يتهافت تحليل آرثر للتكنولوجيا.نحن نبرمج عقولنا من خلال ما ندرس ونتعلم ونفكر ونرى إلخ.. ونستغل عقولنا من أجل الوصول الى أهدافنا. وبذلك من الخطأ تحليل التكنولوجيا من خلال برمجة الظواهر واستغلالها، ما يشير بقوة الى انهيار تعريف آرثر للتكنولوجيا. وهذا يدفعنا الى اعتبار أن ماهية التكنولوجيا غير محدّدة كما تؤكد على ذلك "السوبر حداثة". فبما أنه لا يوجد تحليل مقبول للتكنولوجيا، إذن لا نستطيع تحديدها حقاً وبذلك من غير المحدّد ما هي التكنولوجيا.لا يوجد تحليل مقبول للتكنولوجيا للسبب الآتي: ثمة طريقتان فقط كي نعرّف التكنولوجيا فإما أن نعرّفها من خلال علاقتها بنا وبمحيطها الطبيعي وهذا ما قام به آرثر ولقد وجدنا فشل هذا الاتجاه، وإما أن نعرّف التكنولوجيا من خلال صفاتها الذاتية المستقلة عنا وعن العالم المحيط بنا وبها فسيفشل تحليلنا على الفور. هذا لأن التكنولوجيا مرتبطة بنا وبالعالم بالضرورة. فنحن من نصنعها ونستعملها ومن دون استخدامنا لها وتأثيرها في العالم سوف تخسر وظيفتها. ولا وجود لتكنولوجيا مجردة لأن التكنولوجيا تتضمن بالضرورة استخدامنا لها وتأثيرها في العالم. من هنا، لا يوجد تحليل مقبول للتكنولوجيا ما يشير الى لا محدديتها.لا محددية العلم.. وكما يتهاوى تحليل آرثر للتكنولوجيا يواجه تحليله للعلم مشكلة مدمرة أيضاً. بالنسبة الى آرثر، العلم هو منهج لفهم الكون وتفسيره كما أنه مجموعة معارف لفهم العالم من خلال المشاهدة والتخيل والتفكير إلخ. لكن هذا التعريف للعلم يقع في الدور المرفوض منطقياً ما يدل على فشله. والدور هو تعريف الشيء بالشيء نفسه كتعريف الماء بالماء. فإذا كان العلم منهجاً لفهم وتفسير الكون، إذن لا بد أن يكون منهجاً علمياً وإلا كان مثلاً منهجاً أدبياً أو جمالياً إلخ. من هنا، يحلّل آرثر العلم من خلال المنهج العلمي وبذلك يحلّل العلم من خلال مفهوم العلم ما يدل على وقوع تحليله في الدور المرفوض. أما إذا كان العلم معارف لفهم العالم، إذن لا بد أن تكون هذه المعارف معارف علمية وأن يكون فهم العالم من خلالها فهماً علمياً وإلا كانت معارف غير علمية مرتبطة بفهم غير علمي فنكون قد حلّلنا العلم من خلال اللاعلم وهذا خطأ. لكن إذا كان العلم معارف علمية وفهماً علمياً للعالم، نكون حينها قد حلّلنا العلم من خلال العلم فوقعنا في الدور المرفوض. من هنا، لا ينجح آرثر في تعريف العلم ما يدعم موقف السوبر حداثة القائل بأن العلم غير محدد، تماماً كالتكنولوجيا. فلو نجح التعريف السابق للعلم لحدد العلم، لكنه لم ينجح، وبذلك على الأرجح العلم غير محدد.أما الدليل القاطع على لا محددية العلم فهو الآتي: يرينا الفيزيائي لي سمولن أن العلماء منقسمون الى فريقين. الفريق الأول يعتبر أن نظرية الأوتار نظرية علمية وبذلك يقبلون بها ويعملون على ضوئها، أما الفريق الثاني فيصرّ على لا علمية نظرية الأوتار فيرفضونها. بالنسبة الى نظرية الأوتار، يتكوّن الكون من أوتار وأنغامها؛ فمع اختلاف ذبذبات الأوتار تختلف مواد الطبيعة وطاقاتها. هذه النظرية تقدّم صورة بسيطة وجميلة عن الكون وتوحّد بين المواد المختلفة والطاقات المتنوعة من خلال اعتبار أن كل المواد والطاقات مجرد أوتار وذبذباتها. وعلى أساس "جمال" هذه النظرية يقبل العديد من العلماء بها. لكن، من جهة أخرى، يرفض علماء آخرون هذه النظرية لأنها لا تتنبأ بأي شيء جديد وبذلك يستحيل إختبارها، أي تكذيبها، أو تصديقها، ولذا يعتبرونها غير علمية (Lee Smolin: The Trouble with Physics. 2006. Houghton Mifflin Harcourt).هذا يشير الى أن العلم غير محدد تعريفاً. وبما أن العلماء منقسمون حول ما إذا كانت نظرية الأوتار نظرية علمية أم لا، فهم مختلفون إذاً، حول ما هو علمي وما هو ليس بعلم. والعلماء هم الخبراء في هذا المجال. بذلك من غير المحدد ما هو العلم وما الذي يجعل النظريات علمية.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق